ولديهم شبهة دائماً يكررونها: وهي أن موسى عليه السلام كان أفضل الناس من أهل الشريعة، فهو كان نبياً مرسلاً من أولي العزم، وأما الخضر فقد كان كما يزعمون مجرد ولي فقط، وهو من أهل الباطن ومن أهل الحقيقة، فعلى هذا يكون الولي أفضل من النبي، هذا من جملة شبهاتهم في تفضيل الولي على النبي، أو تفضيل مقام الولاية على مقام النبوة، وبين العبارتين فرق، إذا قلنا: تفضيل الولي على النبي، يعنون به أنه لا بد أن يكون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، أما إذا قالوا: إن الولاية أفضل من النبوة فيجوز أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، لكنه أفضل باعتباره ولياً لا باعتباره نبياً، فلهذا يقولون:
مقام النبوة في برزخ            فويق الرسول ودون الولي
يعني عكسوها تماماً، جعلوا أفضل شيء الولي بعد ذلك النبي ثم الرسول أدنى شيء، والعكس هو الصحيح، وهو أن الأفضل هو الرسول ثم النبي ثم الولي، على اختلاف معنى الرسول عن معنى النبي.
فإذاً: هم يجعلون النبوة درجة أو مقاماً أدنى من الولاية، فهؤلاء الأولياء لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وصفاتهم هي صفات غير ما يعرفه البشر، يعني أن الأنبياء يعيشون ويتزوجون ويموتون كما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل لهم أزواجاً وذرية، ويموتون: (( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))[الزمر:30].. وهكذا، أما الأولياء فكأنهم عالم آخر، وشيء آخر، وحياة أخرى، وما يسري من نواميس هذا الكون أو سنن الله تعالى في هذا الكون لا تسري عليهم؛ ولهذا يعتقد بعضهم أن الخضر عليه السلام هو القطب الأعظم في جميع العصور، يعني: منذ أول التاريخ إلى نهايته هو القطب، وهو لا يزال يظهر ويلتقي بالأولياء ويحادثهم ويكاشفهم ويخاطبهم .. إلى آخره، فلا يجعلونه بشراً كسائر البشر عاش ومات، بل الخضر عليه السلام كان نبياً، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، وجعلوا القول بأنه مجرد ولي من الأقوال الشاذة المخالفة للإجماع، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال عندما ذكر قصة موسى وفتاه من أول القصة: (( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] فالرحمة هذه تطلق على النبوة، كما في قوله تعالى: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[الزخرف:32] فهذه الآية نزلت لما قالوا: (( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ))[الزخرف:31]، قال تعالى رداً على ذلك: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ))[الزخرف:32] فالنبوة التي هي إنزال القرآن هذه رحمة الله، وكذلك أيضاً في قول نوح عليه السلام: (( وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ))[هود:28] ، وقوله: (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ))[يونس:58].
أيضاً إذا قلنا: إن فضل الله هو إنزال القرآن ورحمته هي النبوة.. وهكذا، فتكون الرحمة جاءت في القرآن بمعنى النبوة.
وقوله: (( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] معنى ذلك: أنه يوحى إليه، يقولون: إن العلم اللدني هو الوحي، هم لا يزعمون الوحي لماذا؟ يقولون: إن الرسول أو النبي يأتيه الروح الأمين -روح القدس جبريل عليه السلام- يأتيه بالوحي من الله، أما الولي فقالوا: يقرأ من اللوح المحفوظ مباشرة، تعالى الله عما يصفون، هذا من افتراء الصوفية وأكاذيبهم ودجلهم، يزعمون أنه يطلع ويقرأ مباشرة من اللوح المحفوظ.
نقول: قول الله عز وجل: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] العلم الذي يسمونه (اللدني) هو الوحي الذي آتاه الله الخضر عليه السلام، كما روى الإمام البخاري رحمه الله عدة روايات عن الخضر ولقائه موسى عليهما السلام: ( قال: يا موسى! أنت على علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني إياه لا تعلمه ) فهذا نبي وهذا نبي، لكن لدى هذا من العلم ما يحتاج إليه هذا، ولدى هذا من العلم ما يحتاج إليه ذاك.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل المرسلين وسائر الخلق علماً، ولا يحتاج صلوات الله وسلامه عليه إلى أن يعلمه أحد، بل كل طريق إلى الله مسدود منذ أن بعثه الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فلا طريق يوصل إلى الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الخلق كافة، وإنما كان رسولاً إلى قومه خاصة: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] بينما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] في أول سورة إبراهيم، فانظروا الفرق بين العبارتين، بين من قال الله تعالى: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبين من قال: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] وهو موسى عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى أرسله إلى فرعون وملئه، وجعل أتباعه هم بني إسرائيل بعد أن أغرق فرعون وملأه، وأنجاهم إلى الأرض التي كتب الله تعالى لهم، فأتباعه هم بنو إسرائيل والأنبياء من بعده، وأفضلهم وأعظمهم موسى عليه السلام، فهو أفضل وأعظم أنبياء بني إسرائيل كلهم، فقد جاء من بعده أنبياء لبني إسرائيل، وكان آخرهم -وهو أفضل الأنبياء من بعد موسى عليه السلام عيسى عليه السلام، قال: (( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[آل عمران:49].
إذاً: فلا يمنع أن يبعث الله تبارك وتعالى رسلاً في الأمم الأخرى كالفرس أو الترك أو اليونان.. أو غيرهم، قال تعالى: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]، في نفس الوقت الذي يكون فيه رسول من رسل بني إسرائيل في أمته، ويكون لدى هذا من العلم ما ليس لدى هذا.. وهكذا كان الأمر.
ولذلك في أول الحديث السابق موسى عليه السلام سئل وهو على المنبر: ( هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا. ) فلم يرد العلم إلى الله عز وجل، بل نفى ذلك ظناً منه أنه لا أحد أعلم منه، فعندئذ أخبره الله عز وجل أن هناك من هو أعلم منك، وهو الرجل الذي تجده في المكان الفلاني على الصفة الفلانية، فذهب هو وفتاه إليه.
إذاً: ما كان في إمكان موسى عليه السلام أن يقول ذلك؛ لأن الأرض فيها من لم يجب عليه أن يتبعه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107] فببعثته سد الله تعالى كل طريق يوصل إليه، إلا من طريق اتباعه صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الخضر عليه السلام لما فعل ما فعل، وأنكر عليه موسى ما أنكر، كما بين الله تعالى وقص علينا، وأخذ يبين لموسى عليه السلام تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، قال من جملة ما قال: (( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ))[الكهف:82] أي: أنني قد كلفت وأمرت من الله عز وجل، فهو قد فعل ما فعل بما يقتضي العلم الذي قال الله تعالى عنه: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] وهو الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه، وما فعل ما فعل إلا بأمر الله ولم يفعله بأمره.
إذاً هو نبي يوحى إليه من الله عز وجل، ولديه من العلم ما لم يكن لدى موسى، كما أن موسى عليه السلام أعلم بشرائع التوراة ، وهو كتاب الله الذي أنزله عليه، وهو أعلم بحلالها وحرامها وما فيها من الخضر عليه السلام، وهذا بشر وهذا بشر، (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ))[الأنبياء:34] كلهم ميتون موسى وكذلك الخضر ، وكلهم ملاق الله عز وجل.
فما يزعمه الصوفية من أن الخضر عليه السلام كائن أسطوري خيالي وهمي، لا أول لحياته ولا آخر، ويتشكل ويتقلب، ويأتي كلَّ أناس ويذهب إلى أولياء، وأحياناً يعتقدون أنه يذهب إلى جملة من الأولياء في وقت واحد، ثم ما يعتقدون أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال يجتمعون كلهم في ليلة السابع والعشرين من رمضان، أو ليلة النصف من شعبان في مكة ، ويلتقون ويتحادثون.. كل هذه خيالات وأوهام؛ ولهذا يذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هذه البدع: أنه لم يصح ولم يثبت من هذه الأسماء شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس أو الصالحين إلى أقطاب وأوتاد وأبدال.. وغير ذلك...